البحوث الحيوية (1)

     البحوث في المجال الطبي أو الحيوي بصورة عامة تختلف عن غيرها من المجالات الهندسية والطبيعية والاختلاف الأكبر هو تعقيد النظام الحيوي الشديد مقارنة بالأنظمة الأخرى. فجسم الإنسان أو الحيوان له شبكة معقدة من الوظائف المتداخلة والمتكاملة التي يساند بعضها البعض الآخر، ويغير بعضها البعض الآخر.
      يبدأ البحث بنظرية تستند إلى وظيفة مثبتة عادة كاقتراح إمكانية استعمال دواء لتخفيض ضغط الدم إذا علمنا أنه يبسط العضلات الملساء، فنتوقع أنه يبسطها في الشرايين وبالتالي يقلل الضغط ، ولكن هذا وحده لا يكفي، لأن الجسم بطبيعته يصحح ما يحدث فيه من خلل ويعوض ما يحدث فيه من تغير ليحافظ على وظيفته، فقد ينتج عن هذا الانبساط في العضلات المحيطة بالأوعية الدموية انخفاضا في الضغط يؤدي إلى رفع عدد ضربات القلب وقوة ضخه، وبالتالي لا يفيد العلاج، بل قد يصبح ضارا.
      بنفس الطريقة يمكن للإنسولين الذي يعمل على خفض مستويات السكر في الدم أن يؤدي إلى زيادة الشهية وزيادة الوزن ، حيث إن الإنسولين هو هرمون حالة الشبع ، وارتفاعه يؤدي إلى إدخال السكر من الدم إلى الخلايا وتخزينه فيها ، فإذا أسرف المريض في جرعة الإنسولين بصورة مزمنة، بمعنى أنه يأخذ هذه الجرعة الكبيرة يوميا، فإن الجسم سيعوض بطلب كميات أكبر من الغذاء فيجوع المرء ويتناول وجبات أكبر، ليشبع هذا الطلب المتزايد من الجسم، وليمنع حدوث انخفاض معدل السكر في الدم. إذا الموضوع ليس بسيطا كما يظن البعض، ولا يخضع للتفكير المنطقي العقلي البسيط، بل هو عملية معقدة بل شديدة التعقيد تحتاج إلى تفكير عميق وتجربة ومشاهدة واستنتاج، زد على ذلك غموض هذا النظام البيولوجي المعقد، وعجز العلم عن فهم أجزاء ووظائف كبيرة منه.
     ولهذا السبب كانت التجربة هي الطريقة الوحيدة لتطور العلم في مجال الطب والعلوم الحيوية، ولا بديل لها على الإطلاق. وستحاول هذه التدوينة تتبع هذه العملية خطوة خطوة لتتضح معالم الفكرة قليلا قليلا.
     قبل تجربة أي دواء أو مركب يعتقد انه دواء محتمل على البشر من الواجب استعماله على الحيوان قبل ذلك، حيث يتشابه التركيب الوظيفي للحيوان والإنسان، والغرض هو اثبات فعالية الدواء واختبار سميته على الكائن الحي.
     حيوانات التجارب يسهل التعامل معها مقارنة بالبشر، وكثير جدا من الاختبارات والتجارب يمكن عملها على الحيوان في حين يستحيل تطبيقها على الإنسان، فمثلا لو أردنا قياس مستوى مادة ما في دماغ الحيوان فيمكننا إنهاء حياته ودراسة دماغه وقياس معدل هذه المادة عليه، ولو أردنا دراسة أثر مادة كيميائية على الكبد في الفأر فإن قتل الحيوان ممكن وقياس مستوى تلك المادة في الكبد ممكن كذلك، وهو ما يستحيل عمله للبشر. قد يعترض شخص ما قائلا: هذا تعذيب للحيوان وغير إنساني، والحقيقة ان ذلك صحيح من زاوية، ومن زاوية أخرى هو شر لا بد منه، ولا يختلف كثيرا عن ذبح الحيوان لأكل لحمه ، بل يمتاز عن ذبح الحيوان لأكل لحمه في المقصد، فالمقصد من اختبار الدواء وتوفير العلاج للبشرية أهم وأسمى .
     في المقابل لا يتفاعل جسم الحيوان بنفس الطريقة التي يتفاعل بها جسم الإنسان مع الدواء موضوع التجربة، ولكن هذه التجربة وإن كانت لا تعكس ما سيحدث في جسم الإنسان تماما فإنها توفر قدرا من الخبرة لا يقدر بثمن، وخطوة لا يمكن الإستغناء عنها لتطور الفكرة والوصول إلى نتيجة، وللحديث بقية
الطيب محسن